عندما تسلَّم سيدنا عُمر بن الخطاب أمر المسلمين خاف الناس شدَّته وبأسه، دخل عليه حُذيْفة فوجده مهموماً باكياً،فقال له: "ما الذي يبكيك يا أمير المؤمنين"، فقال: "إني أخاف أن أُخطئ فلا يردني أحدٌ منكم تعظيماً لي"، فقال حذيفة: "والله لو رأيناك خرجت عن الحق لرددناك إليه". عندئذٍ فرح عمر وتألَّق وجهه وقال: "الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت".
هذا درسٌ عظيم لكل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين ألا يستبد برأيه وألا يصغي للمنافقين المتملقين الذين يقولون له فقط ما يحب، قال سيدنا عُمر: "لست بالخِب، ولا الخِبُّ يخدعني" أي ليس بالخدّاع الماكر،كما أنه ليس من السذاجة والبساطة بحيث يسمح لأحدٍ من الماكرين الخدّاعين أن يحتال عليه بكلام معسول.
إن إلغاء النقد البنَّاء، والاستبداد بالرأي ينهي سلطان المستبد، ويسير به نحو الهاوية، أما الاستشارة وسماع النصيحة ولو من أضعف الناس تجعل العمل يرتقي وتزيد السلطان رسوخاً.
ذات مرة اجتهد سيدنا عُمر اجتهاداً فقال: "أيها الناس، لا تزيدوا مهورَ النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألْقَيت الزيادة في بيت المال"، فنهضت امرأةٌ من بين أواخر الصفوف وقالت: "ليس هذا لك يا عمر"، لا تستطيع أن تفعل هذا، فيسألها: ولمَ؟ فتجيبه بأن الله تعالى قال: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }-النساء.
فيتألَّق وجه هذا الخليفة العظيم ويبتسم ويقول عبارته الشهيرة: "أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر".
أخي الكريم: إذا كنت رب أسرة ولفت انتباهك ابنك أو بنتك أو زوجتك لأمرٍ ما، هل تقبل النصيحة أم يأبى عليك (كبرياؤك)؟ إذا كنت مسئولاً عن جماعة في عمل ما وراجعك أحد الموظفين في أمر ما هل تقبل ذلك منه أم يتغير وجهك؟.
لقي العباسَ يوماً فقال له: "يا عباس لقد سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) قبل موته يريد أن يزيد في المسجد، وإن دارك قريبةٌ من المسجد، فاعطنا إيّاها نزدها فيه، وأقطع لك أوسع منها"، فقال له العباس: "لا أفعل"، قال عمر: "إذاً أغلبك عليها"، فأجابه العباس: "ليس ذلك لك، فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق"، فقال عمر:"من تختار؟" قال العباس "حذيفة بن اليمان"، فانتقل سيدنا عمر مع العباس إلى حذيفة بن اليمان، وقصّا عليه الخلاف الذي بينهما، فقال حذيفة: "سمعت أن نبي الله داود عليه السلام أراد أن يزيد في بيت المقدس، فوجد بيتاً قريبـاً من المسجد، وكان هذا البيت ليتيم، فطلبه منه فأبى، فأراد داود أن يأخذه قهراً، فأوحى الله إليه أنّ أَنْزَهَ البيوت عن الظلم هو بيتي، فعدل داود، وتركه لصاحبه". نظر العباس إلى عمر، وقال: " ألا تزال تريد أن تغلبني على ذلك؟"، فقال له عمر: "لا، والله " فقال العباس:" ومع هذا فقد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله ".
أيها الإخوة الأكارم: إن النصيحة واجبة علينا جميعاً فقد قال المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم): "الدين النصيحة(ثلاثاً)، قلنا لمن يا رسول الله قال: " لله عزّ وجلّ ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"-رواه مسلم.
ولكن السؤال: كيف تكون النصيحة؟ هل بكتابة المقالات على صفحات الجرائد والمجلات؟ هل ببث الأراجيف ونشر الشائعات وتضخيم الأخطاء وإن كانت ضئيلة وقليلة؟! بالتأكيد لا، لأن من يفعل ذلك إنما أراد نشر الفضائح لا النصائح. أحياناً تصحيح خطأ حدث أمام جماعة يتطلب أن يكون في وجودهم كما حدث مع سيدنا عُمر، ولكن بأدب وبتقديم الحجة، أما النقد البنّاء فهو ما كان سراً، وللشخص نفسه الذي يُراد تقديم النصيحة له لا لغيره، فقد قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: " المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر". وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: "إن كنت فاعلاً ولا بدّ ففيما بينك وبينه". وقال بعض السلف الصالح: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبّخه". ولنسمع لتجربة أبي معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين الثقات، حيث نصح سيدنا عثمان بن عفان جهراً فتلقفها أصحاب الأغراض واستباحوا دمه الشريف، فقال ابن عكيم: "لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان". وأنت أخي الكريم لا تُعن الآخرين -الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر- على سفك دم الدعوة المباركة ولو بغير قصد.
برغم كل هذه الأصول الواجب اتباعها في النصيحة يقول سيدنا عُمر لنا: "لا خير فيكم إن لم تقولوها- أي كلمة الحق- ولا خير فينا إن لم نسمعها".