الصدقة والصلاة
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
يا إخوة، إنجيل اليوم يتحدّث عن رُكنَين أساسيَّين من أركان العبادة: الصدقة والصلاة. كِلا الأمرَين نفعله لله ولا نفعله لا لأنفسنا ولا للناس. الصدقة، كما نعلم، نقدِّمها لإخوتنا المحتاجين من حيث إنّنا نعتبرهم شركاءَ لنا. والوصيّة الثانية العظمى هي: "أحبَّ قريبك كنفسك". الصدقة تكون من حاجة الإنسان لتكون مقبولة عند الله. الصدقة لا تكون من فضلات الإنسان. فبقدر ما يعطي الإنسان من لحمه بقدر ما تكون محبّتُه صادقة. والصدقة، في الحقيقة، هي من الموقف الصادق الذي ينبع من القلب. والصدقة أيضاً مبادَرَة صداقة. الإنسان يمتدّ إلى إخوته في مبادرة محبّة، وهو الذي يصنع أصدقاءه. وأصدقاؤه، في الحقيقة، هم أقرباؤه. طبعاً إذا كان الإنسان ليصنع أقرباءه وتالياً أصدقاءه، فهذا معناه أنّه لا أحد منّا يولد قريباً لأحد ولا أحد يولد صديقاً لأحد. كل واحد منا يبدأ مسيرته محبّاً لذاته، ولهذا ليس أحد منا يولد مسيحيّاً. الإنسان يصير مسيحيّاً بالقرار، بالإرادة، بالعزم وبالثبات. وطبعاً الصدقة ذات مغزىً عظيم لا سيما في المجتمعات التي يكثر فيها الفقراء. فإنّ الربّ الإله لمّا أراد أن يشير إلى إله مزعوم يتعبَّد له الكثيرون أشار إلى مامون، أي إلى إله المال. فإذا ما تعاطى الواحد منا الصدقة بحقّانية، فإنّه يكون، في الحقيقة، قد اجتاز امتحاناً ليس بقليل وهو عبادة المال. كثيرون البارحة وغداً واليوم مستعدّون لأن يعطوا من ألطافهم ومن كياستهم القليل أو الكثير، ولكنْ الامتحان الحقيقي يكون متى كان الواحد مستعدّاً لأن يبذل من جيبه ولأن يبذل بسخاء على قول المرنِّم في المزامير: بدَّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد. الصدقة بهذا المعنى، إذاً، لها دلالة عظيمة من جهة أصالة المحبّة التي يمكن المؤمن أن يتعاطاها مع المساكين.
ثمّ تأتي الصلاة. الصدقة تصبّ حتماً في قناة الصلاة. الصدقة التي لا تصبّ في قناة الصلاة تستحيل عملاً إجتماعياً ولا يمكن لصاحبها أن يستمرّ في تعاطيها طويلاً. لا بدّ له، من دون الصلاة، أن يرتدَّ إلى عبادة نفسه، لا بدّ له أن يرتدَّ إلى عبادة المال. لأنّ عبادة المال، بمعنى من المعاني، هي صورة راسخة لعبادة الإنسان لأهوائه. وإذا كان الواحد ليطلب مجداً أو سلطة، إذا كان الواحد محبّاً للظهور، فلا يمكنه إلاّ أن يقع في براثن مامون، لا بدّ له أن يكون محبّاً للمال. نحن، في الحقيقة، لا نتعاطى محبّة الناس وحسب. لأنّنا إذا اكتفينا بتعاطي محبّة الناس، فإنّنا سنجد أنفسنا عاجزين بعد حين عن الاستمرار طويلاً في محبّتنا للناس. المحبّة الحقيقيّة للناس تأتي نتيجة محبّتنا لله. ولهذا، في ذِكر أعظم الوصيَّتين كانت الوصيّة الأولى هي: "أحبّ الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك". هذه تأتي أولاً. ثمّ تأتي الوصيّة الثانية التي هي تعبير محسوس بين الناس لمحبّتنا الكاملة لله. وإذا لم يكن في أفق الإنسان أن يكون، أولاً وقبل كل شيء، محبّاً لله، إذا لم تأخذ محبّة الله بمجامع قلبه، فإنّه لا يكون قادراً على محبّة الناس. قد يظنّ أنّه يحبّهم وقد يظنّ أنّه قادر على محبّتهم ولكنّه إذا صَدَق وجد أن الأمر مستحيل. من دون استقامة في محبّة الله يستحيل على الإنسان أن يكون مستقيماً في محبّته لإخوته. ولهذا عمل الصدقة لا بدّ أن يصبّ في عمل الصلاة، وعمل الصلاة لا بدّ أن يتمّ التعبير عنه بعمل الصدقة. الصدقة والصلاة مرتبط الواحد منها بالآخر. الصدقة للصلاة والصلاة للصدقة. من هنا القول إنّ غاية الوصيّة هي المحبّة من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة.
في نهاية المطاف، المحبّة الحقّانية الكاملة هي أن يدخل الإنسان في صِلة مع الله، أي أن يدخل في الصلاة. الصلاة هي أكمل المحبّة وهي مَعين المحبّة. الصلاة هي التي تزوّد المحبّة بالقوّة الداخلية وتجعل لها أعماقاً لا يُسبَر غورها. وإلاّ الإنسان قد يؤخَذ حماساً بشيء من محبّة الآخرين، ثمّ بعد ذلك بقليل أو بكثير تفتر همّته لأنّ أعماق الله في نفسه لا تكون عميقة.
على هذا، يا إخوة، نحن بالصدقة نتعاطى الأُفقيات وبالصلاة نتعاطى العموديات. وكِلا البُعدَين أساسيّ لبناء الإنسان، لبناء الإنسان الجديد الذي هو على صورة ابن الإنسان. النعمة العظمى التي أُعطيت لنا هي أن نصلّي. أصلاً الصلاة تتضمّن أنّ الإنسان قادر على أن يقف بإزاء الله. الصلاة تتضمّن أنّ الإنسان قادر على أن يقف في حضرة الله. فإذا ما كان الإنسان ليتمتّع بمثل هذا الامتياز العظيم، فهذا معناه أنّ الإنسان معطى أن يدخل في شركة مع الله. ومجرّد القول بأنّ الإنسان قادر على أن يدخل في شركة مع الله بنعمة من الله، فهذا معناه أنّ الربّ الإله يعطيه نعمة الألوهة. قديماً قيل: ليس أحد يرى الله ويحيا. كان مستحيلاً على أيّ إنسان أن يعاين الله ويعيش. لمّا صعد موسى إلى الجبل كان كل الناس ما دون الجبل، حتى الحيوانات لم تقترب، لأنّ المكان كان مقدَّساً، ولم يكن قد أُعطي بعد للإنسان أن يقف في حضرة الله. فقط اختُصّ موسى بذلك، وموسى كليم الله هو صورة كلمة الله أي هو صورة ابن الله. فقط الإبن يكلّم أباه، فيما عدا ذلك لا يجسر أحد على أن يدنو من الله لئلا يموت. ولكن لمّا تجسّد ابن الله صار لنا دنوّ به إلى الآب السماوي. صرنا في امتياز عظيم وهو أنّنا بتنا قادرين على أن نعاين الله كما هو. لهذا السبب نحن في الكنيسة نلتمس المعاينة، نلتمس الوقوف في الحضرة الكاملة لله. طالما هذا تحقَّق في شخص الربّ يسوع وطالما نحن أُعطينا روح الربّ، فقد صار ما حقَّقه الربّ يسوع، في ذاته، متاحاً لنا. المهم أن نتروّض على المحبّة والصلاة، ومن ثمّ، متى تنقّينا، أدخَلَنا روح الربّ إلى حضرة الربّ. نحن بنوره نعاين النور ونحن في حضرته نقف في الحضرة.
لهذا، كل العبادة هي سعي إلى هذه المحبّة لله في الناس وللناس في الله. نحن لا نقف عند حدود الصدقة لأنّ كمال الصدقة، أو لنقل كمال المحبّة، أن نتخطى وجوه الناس إلى وجه الله على ما قال المرنّم في المزامير: "وجهك يا ربّ أنا ألتمس". لا شكّ أنّنا نلتمس القُربى من الناس في تعاطينا الصدقة، ولكننا نتوخّى ما هو أعظم من هذه القُربى، نتوخّى أن نحصل بنين لله. وهذا يستلزم، في الحقيقة، أن نتخطى الناس وأن نتخطى أنفسنا في نوع من الغربة عن كل ما في هذه الدنيا، حتى نقف بإزاء الله، في حضرة الله، لا نتوخى إلاّه هو. نحن لسنا أصحاب عمل اجتماعي في هذه الدنيا، نحن نلتمس الألوهة، نحن نلتمس أن نصير في الله وأن يصير الله فينا. نحن نلتمس إفراغ ذواتنا من كل اهتمام في هذه الدنيا إلاّ من الاهتمام بالله. فإذا ما صار الله لنا الكل في الكل، إذ ذاك، في الحقيقة، يستقيم موقفنا من ذواتنا ويستقيم موقفنا كاملاً من الناس. كل ما نفعله، إذ ذاك، نفعله في حال اللاهوى، نفعله مجاناً، نفعله دون غرض. إذاً ما نلتمسه في كل ما نفعل يكون الله نفسه والربّ يسوع المسيح، كما يقول لنا بولس الرسول، هو الذي به وله كل شيء، وكل شيء يقوم فيه هو. المهم أن ندرك أنّ الغاية من الحياة المسيحيّة هي أن نمتلئ من الروح القدس، أن يصير كل واحد منا مسيحاً على صورة مسيح الربّ، أن يصير كل واحد منا حيّاً إلى الأبد على صورة الحيّ إلى الأبد. هو حيّ إلى الأبد، هو إله بطبيعته، ونحن نصير آلهة بالنعمة التي يسبغها علينا.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.